نقد كتاب حبس الطيور في الأقفاص
الكتاب من تأليف عبد الكريم الجميد وهو من أهل العصر وهو يدور حول حكم حبس الطيور في الأقفاص وفى المقدمة قال:
"أما بعد فقد علمت أنه كثر في وقتنا اقتناء بعض أصناف الطيور ، خاصة ذوات الألوان الزاهية والأصوات الحسنة حتى إنه صار لها مواضع خاصة يتاجر بها ، وأنها تستجلب من بلدان بعيدة لغرض إمتاع النظر والسمع ، فتحبس في أقفاص في البيوت ومحلات البيع ، وكأنها جمادات لا إحساس لها ولا شعور "
وفد استهل الكتاب بأن الناس فى عصرنا يستفتون وهم يريدون إباحة كل شىء حتى لو كان حراما ومن يفتونهم يساعدونهم على تحليل الحرام وفى هذا قال :
"وكعادة بعض أهل وقتنا إذا أرادوا فعل شيء مما أحدث ولم يكن له مثيل سابق فإنهم يستفتون ، وليس الشأن أن يستفتوا فيفتوا لأن هذا كثر جدا وكثر أهله لإضفاء الشرعية على كل شيء ، وإنما الشأن هل هذه الفتوى حق أم لا فالذين يفتون ويسوغون حبس الطيور ونحوها يستدلون بأدلة يغصبونها لمجارات ما أحدث في وقتنا مثل استدلالهم بحديث المرأة التي حبست هرة ، وأن العلة أن المرأة لم تطعم الهرة ولم تسقها ، وهو والله مخيف وكاف في الردع والزجر عن ظلم هذه المخلوقات والذي في هذا الحديث الشريف خبر من النبي (ص)بحادثة حاصلة ، وفي ضمنه التحذير أن يفعل أحد مثل هذا الفعل وإنه لتحذير هائل عظيم ! ، فهذه المرأة - التي حبست الهرة - مسلمة ، وإنما صار سبب دخولها النار هذا الأمر ، ومن ذا يطيق عذاب النار والعجب أن يستدل بذلك على تسويغ وتهوين حبس الطيور في الأقفاص الذي كثر وانتشر وأكثر ما يفعله المترفون الذين لم يذكرهم الله - عز وجل - في كتابه الكريم إلا بالذم ويحذر الناس أن يسلكوا مسالكهم
وليس في هذا الحديث مستمسك لهؤلاء ، ولكنه خبر خرج مخرج التحذير من التعرض للظلم ولما يوصل إلى العذاب الأليم
ومعناه أن المرأة أساءت إلى هرة وظلمتها بحبسها ، وزادت في شرها وعدوانها أنها لم تطعمها وتسقها ، فاستدلالهم باعتبار أنها لو أطعمتها وسقتها فليس في ذلك شيء ؛ وهذا غلط ظاهر ، فالمنهي عنه هو الظلم حتى لهذه المخلوقات المحتقرة ، وهذا خلاف الصائل فإنه يقتل سواء القطط أو غيرها ولا يعذب ، وعند أهل العلم قاعدة شرعية تبين ذلك وهي ( ما آذى طبعا قتل شرعا ) ، وليس هذا هو موضوعنا "
وفى الفقرة السابقة تناول رواية الهرة وأنها لا تصلح لتحليل حبس الطيور فى الأقفاص وزاد فقال:
"فقصة الحديث لا تصلح إطلاقا كدليل يسوغ ظلم المخلوقات الحية ، بل قصته أعظم رادع وزاجر ومحذر من الظلم ؛ ومن ظلم المخلوقات ما يفعله البعض من حبس الطيور في الأقفاص وإذا كانت العلة على رأي المسوغين حبس الطيور أن المرأة لم تطعم الهرة ولم تسقها ، فهل إذا حبس إنسان ظلما وأطعم وسقي يكون ذلك غير ظلم له ؟! ، بل هو ظلم ؛ وإنما منعه الطعام والشراب زيادة في الظلم والعدوان فإن قيل ( هذا صحيح بالنسبة للإنسان ، ولكن هذه الطيور ونحوها ليست كالإنسان ) ، فيقال حبسها ظلم لها لأنها لم تخلق ليضيق عليها ، ولا ريب أنها تتألم بذلك الحبس ، وغاية ما هناك أننا لا نفقه لغاتها ، ولاشتراك الناس في العلم أن حبس الطائر في القفص عذاب له فهم يقولون " المؤمن عند الذكر والموعظة كالسمك في الماء ، والفاسق كالطائر في القفص "
وما يدري حابسها أن أصواتها التي يتلذذ بسماعها حنين وبث شكوى لخالقها ، ولقد وسع الله لها الفضاء وأعطاها أجنحة تطير بها فيه كما أعطاك قدمين تسير بهما على الأرض وأنت من أجل هواك تضيق عليها وتظن أنها تغني لكي تطربك ! ؛ فالقياس إذن على حديث المرأة والهرة فاسد من الأصل ، ولكن كثيرون في وقتنا زادوا على ما قاله الإمام أحمد ( أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس ) ، فيؤولون ويقيسون دون تحقيق ! ، فهم يلتمسون من الشريعة على ما أحدثوا ما لا يطاوعهم إلا قسرا وغصبا وبالعكس فالحديث زاجر ورادع لمن يعقل أن يقترب من مثل هذا الفعل فلو قال ( أنا أحبس الطيور وأطعمها وأسقيها ) فقد تبين أن العلة ليست فقط في عدم ذلك ، وإنما هي في الظلم أيضا ، وإذا كان هذا الوعيد المتحقق في شأن هرة فكيف بمن يظلم الناس ؟!
ويقال أيضا لهذا أنت تنشغل وتنسى ويعرض لك ما يعرض مما يشغلك عن تعاهدها ، ولا مصلحة بجانب هذه المفسدة وقد حصل من موت الطيور ونحوها لهذه الأسباب الكثير ، ومن شاء فليسأل أربابها
فالمفسدة كبيرة بالحبس وحده مقابل لا مصلحة لأنه إذا كان التسلي بإيلام هذه المخلوقات مصلحة فهذه لاشك أمزجة منحرفة "
مما سبق فند الرجل المسألة بالقياس على رواية الهرة وأنها لا تصلح فى الطيور ثم بين أن المطلوب هو رحمة الحيوان أيان وأن حبسه ليس من ضمن تلك الرحمة فقال:
" والمؤمن مطالب بالرحمة والإحسان ومنهي عن التجبر والظلم ، وعلى العاقل أن يفكر في شأن حابسة الهرة وساقية الكلب وقد أخرج البخاري في « صحيحه » برقم ( 2234 ) ومسلم برقم ( 2244 ) عن أبي هريرة أن رسول الله (ص)قال ( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج ، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل " لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني " ، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ) ، قالوا يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجرا ؟! ؛ فقال (ص) ( في كل كبد رطبة أجر ) فالبغي غفر لها بسقي كلب ، وصاحبة الهرة دخلت النار بحبسها وظلمها ! وبعض الناس قد يكون غافلا عن ذلك فالحكمة ضالة المؤمن ويستدل بعض من يهون حبس هذه الطيور بما ورد في شأن الزينة مثل قوله تعالى { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } الآية
والآية مناسبة نزولها كما روى ابن عباس { حيث قال ( كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة فتقول من تعيرني تطوافا ؟ ، فتجعله على فرجها وتقول
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } ) ؛ وفي رواية أخرى ( فنزلت { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }
وقد رأيت من تحميل المتأخرين لهذه الآية عجبا حيث يستدلون بها على ما فتح عليهم من التشبه بالكفار وغيره ولا يريدون أن يعترض طريقهم أحد ! ، وانظر كيف يستدلون الآن بالآية على عذاب مخلوقات الله"
قطعا آية الزينة لم تنزل فى طواف المرأة عارية فى الكعبة فهذا امر محال حدوثه لأن الله ينزل العذاب الأليم على من يقرر أى يرد فقط ارتكاب ذنب وليس من يفعله فى الكعبة لأنه يهلك قبل الفعل كما قال تعالى " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"
وإنما الزينة هنا متاع الدنيا الحلال من الطعام والشراب وهو ما فسره الله به وهو الطيبات من الرزق
والزينة فى الآية الثانية لا تعنى الجسم ولا اللباس وإنما تعنى طاعة الله فى كل أمر فهذه زينة المسلم
ثم حدثنا عن استدلال المحللين للحبس بآية الركوبات فقال:
"كذلك يستدلون في شأن الزينة بقول الله تعالى { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون } الآية ، وهذا تحميل لهذه الآية ما لا تحتمل ، والزينة إذا كان فيها ضرر لمخلوق فهي ظلم ، وقد تبين الضرر بحبس الطيور في الأقفاص ، وأما هذه الزينة التي ذكر الله - عز وجل - فليست على حساب التضييق على هذه المخلوقات ، وزينة الطيور بألوانها وأصواتها ليست لتعذب بها بالحبس "
الاية لا علاقة لها بموضوع الحبس فهذه المخلوقات خلقت لزينة أى منفعة أخرى غير ركوب الناس وهى حمل أثقال الناي للبلاد الأخرى فالزينة المرادة عند الناس وهى الجمال والاستمتاع بالمنظر لا علاقة لها بهذا الموضوع فالجمال عند الله هو المنقعة وليس المنظر كما قال تعالى " ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون" فالمنفعة من الركويات متحققة عند الراحة وهى عدم السفر بالركوب عليها داخل البلدةلقضاء مناقع فى الزرع والحرث والحمل وعند السروح وهو السفر بها إما ركوبا أو حملا
وبين الجميد حب الإنسان للجمال فقال:
"كذلك كون الإنسان يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، فهذه لا مفسدة فيها ، ولذلك يقول النبي (ص) ( إن الله جميل يحب الجمال ) ، فالجمال الذي يحبه الله ما ليس فيه إسراف ولا مخيلة ولا ضرر فيه على مخلوق وزينة الحياة الدنيا مذمومة ، ولذلك يقول سبحانه { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } ، وفاعل التزيين في قوله تعالى { زين للناس } محذوف وهو الشيطان ، وما زين لهم تلك الشهوات إلا ليغتروا بها ويستدرجوا بزينتها ؛ وتأمل آخر الآية { والله عنده حسن المآب } وقوله سبحانه بعد ذلك { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد } "
والخطأ فى الفقرة هو أن زينة الدنيا مذمومة والمذموم هو فهل الإنسان الممثل فى ارتكاب الذنوب وأما المتاع فهو حلال أو حرام كما بين الله طرق التعامل فيه
وبين الجميد أن الاستدلال بالزينة على حبس الطيور أمر فاسد فقال:
"فالاستدلال بما ورد من شأن الزينة على جواز حبس الطيور استدلال باطل لأن الضابط لذلك عدم الإضرار بالغير ، وليس عدم الإضرار فقط محصور في منع الأكل والشرب ، بل نفس الحبس إضرار ؛ وقد تبين ومن العجب أن يأتي من يسوغ حبس الطيور في الأقفاص بقصد الزينة مستدلا بما رواه مكحول عن عائشة يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته فقلت يا رسول الله وأنت تفعل هذا ، قال ( إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليهيء من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال ) انتهى ، فأي مضرة في هذا ؟! ، وهل فيه ما يجيز حبس الطيور للزينة وقد تبين أنه مضر بها وظلم لها ؟!ط
قطعا لا علاقة لموضوع الحبس بموضوع الرواية
كما بين الجميد أنهم يستدلون على إباحة الحبس بفعل الطقل مع العصفور فقال :
" كذلك يستدل المجيزون لحبس الطيور بقول النبي (ص)لأخ أنس بن مالك ( يا أبا عمير ما فعل النغير ؟! ) ، وهذا ليس فيه ما يسوغ حبس هذه المخلوقات والحديث ورد لبيان كمال حسن خلقه (ص)، ويوضحه قول أنس ( كان رسول الله (ص)أحسن الناس خلقا ) ، فهو (ص)يخاطب الطفل على قدر فهمه ، ولأن الصبيان تتعلق قلوبهم بلعبهم فمن هنا يلاطفه (ص)وليس في ذلك إضرار بالنغير لاسيما وأنه لم يحبس في قفص ومثل هذا الأمر جار في زماننا وقبله ، فكون صبي معه طائر يلهو به ويلعب قليلا بيده أو حتى في قفص ساعة أو بعض يوم ثم يذبح ليؤكل أو يطلق أو حتى يموت من غير حبس أو منع أكل أو شرب ، فهذا غير داخل في موضوعنا "
ورواية أبو عمير تخالف المعروف من الرحمة بأى طائر فالرواية تقول أنه كان يربطه بخيط والربط إنما هو حبس والرسول(ص) لا يمكن أن يقر طفل على شىء خطأ ومن ثم فالرواية لم تحدث واستدلال الجميد بكون الطفل غير مكلف وانه ينبغى التدرج به فى تعريفه بحرمة الأمر لا ينفع خاصة أن سكوته على هذا يجعل الكفار يعتبرون ذلك مباحا وهو غير مباح ومن ثم لم تقع الحادثة
ثم حدثنا عن استيراد الطيور من الخارج وحبسها فقال:
"وليس في ذلك ما يفتح الأبواب للناس حتى يكون ذلك تجارة في كل بلد ، ومن أجل ذلك تستورد الطيور من بلدان بعيدة قد لا يناسبها جو البلاد التي جلبت إليها فيزيدها ذلك ألما أما أن يهون بعض الناس حبس هذه المخلوقات بشروط وهي ( ألا يراد بذلك الخيلاء والتفاخر ، وألا يلهي التمتع بها عن واجب ، وألا تهمل رعايتها في الغذاء والشراب ) فإنه يقال من السهل أن يقول الإنسان " كل هذا لن يكون " ، فعلى تقدير ذلك وهو محال ، فيقال قد تبين أن مجرد حبسها يضرها ، ولماذا يغفل عن الأصل ويصير الكلام في الفروع ؟! لقد خلق الله لهذه الطيور ذوات الأجنحة فضاء واسعا فحرمتها إياه بحبسك لها في أقفاص وكيف لا ترحم هذه الطيور الضعيفة التي أعطاها الله أجنحة وفضاء واسعا هو مجال طيرانها مع أن الإنسان لو حبس قليلا في غرفة واسعة مغلق عليه بابها لتضجر ، فما بال هذا الطائر الأسير الضعيف عديم الحول والقوة يحبس ؟! ، هل لأنه لا يخاصم عن نفسه ولا يمتنع بقوته ؟! ، أم لأننا لا نفقه لغته فنسمع أنينه وحنينه وشكواه ؟! ، وكم من طائر محبوس هو خير من حابسه وأكثر ذكر لله منه !
وتأمل قول الله تعالى { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } ، قال قتادة على هذه الآية ( الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة ) ، وقال ابن عباس { في قوله سبحانه { إلا أمم أمثالكم } ( يريد يعرفونني ، ويوحدونني ، ويسبحونني ، ويحمدونني ) انتهى ؛ وقال الرازي بعد أن أورد قول ابن عباس { ( وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا " إن هذه الحيوانات تعرف الله ، وتحمده ، وتوحده ، وتسبحه " ، واحتجوا عليه بقوله تعالى { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا } وبقوله في صفة الحيوانات { ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون } ، وبما أنه تعالى ذكر خطاب النمل وخطاب الهدهد ؛ وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات ) ولذلك ذكر الله عن سليمان (ص)أنه قال { علمنا منطق الطير } ، فقد علم الله نبيه سليمان منطقها ، فهو يتكلم معها بحيث تفقه كلامه ويفقه كلامها ، وهذا الهدهد قص الله علينا قصته مع نبيه سليمان(ص)في كتابه العزيز مما يبين معاني الآيات السابقة ومعرفة هذه المخلوقات لخالقها وتوحيدها إياه - عز وجل - وتعظيمها له سبحانه وقد قال ابن القيم في قصة « الهدهد » ( وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض لا يراه غيره ؛ ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أن قال لنبي الله سليمان وقد فقده وتوعده فلما جاءه بدره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال { أحطت بما لم تحط به } وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به وهو خبر عظيم له شأن فلذلك قال { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } والنبأ هو الخبر الذي له شأن والنفوس متطلعة إلى معرفته ، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب ؛ فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر ، وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ومعرفته ؛ وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج ، ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التأكيد فقال { إني وجدت امرأة تملكهم } ثم أخبر عن شأن تلك الملكة وأنها من أجل الملوك بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ، ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه وأنه عرش عظيم ، ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله فقال ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) وذكر ابن القيم كلاما ثم قال ( ثم أخبر - أي الهدهد - عن المغوي لهم الحامل لهم على ذلك ، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدهم عن السبيل المستقيم ، وهو السجود لله وحده ، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له ) "وقال النسفي ( ولا يبعد من الهدهد التهدي إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وحرمة السجود للشمس إلهاما من الله له كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها ) فهذا الهدهد طائر من الطيور المحتقرة الغير مرغوب فيها عند الناس ، وهذه معرفته لتوحيد خالقه سبحانه حتى بلغ شأنه أن ذكر الله حكايته في كتابه الكريم وإنكاره للشرك وتعجبه من أن يعبد الإنسان غير معبوده الحق سبحانه ! ، وبلغ من شأنه هذا المقام مع نبي الله ، وقد قال القرطبي في قول الهدهد { فصدهم عن السبيل } ( أي عن طريق التوحيد وبين بهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق ) ، ولهذا قال بعض أهل هذه الدعوة المباركة - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ( يا ليت كثيرا من الناس يعرف من التوحيد ما عرف الهدهد ) "
والاستدلال بقصة الهدهد مع سليمان(ص) نافع فى حرمة الحبس وأنه ينبغى اطلاق الطيور فى الأرض
ثم قال عن آية أخرى:
"وقال تعالى { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }
قال ابن القيم عن هذه الآية ( الآية شاملة لهداية الحيوان كله ناطقه وبهيمه ، طيره ودوابه ، فصيحه وأعجمه ) يريد ابن القيم الهداية العامة ، وهذه الآية مثل قوله تعالى { والذي قدر فهدى } وقد ذكر في كتابه النفيس « شفاء العليل » من عجائب ما ألهم الله الحيوان والطير والنحل والنمل لمعايشها ما يبين قدرة القدير وعلمه ولطفه وحكمته وقد تقدم ما ذكر الله - عز وجل - من قول نبيه سليمان (ص) أنه قال { علمنا منطق الطير } ، فهو منطق معبر لكن لا نفقهه !
قال ابن القيم ( ومن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم ويحدثون له قوة وهمة وحركة حتى يطير ) وقد تقدم بيان أن الطيور أمة من الأمم كما في قوله تعالى { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } ، فأنت يا من تحبس طائرا في قفص تتمتع بزعمك بصوته وشكله الحسن ، وربما أنه يشكوك إلى ربه وخالقه الذي أعطاه جناحين يطير بهما في فضاء وأنت عطلت جناحيه بحبسك إياه واستمتاعك بصوته الحسن وشكله الجميل ، فهو مثل المعوق الذي لا تحمله أقدامه ، بل يزيد عليه بحبسه ؛ وتأمل إن كنت تخاف الحساب يوم القيامة قوله تعالى { ثم إلى ربهم يحشرون } وقد جاء عن أبي الدرداء أنه قال ( تجيء العصافير يوم القيامة تتعلق بالعبد الذي كان يحبسها في القفص عن طلب أرزاقها وتقول " يا رب هذا عذبني في الدنيا " "
الاستدلال بالآبة السابقة كلام فى غير محله فهى لا تتحدث عن حبس الطيور أو غيرها وإنما تتحدث عن قدره الله ومن ثم فلا صلة لها بالموضوع وأما الرواية المنسوبة لأبى الدرداء فلا تصح لأن كل فرد يأتى وخيدا يوم القيامة ليس معه شىء أى متعلق به شىء كما قال تعالى " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم"
ثم نقل مقولا فى حرمة حبس الطيور من بطون الكتب قال:
"ولذلك منع ابن عقيل حبس الطير في القفص وجعله سفها وتعذيبا حيث قال حينما سئل عن حبسها لطيب نغمتها ( سفه وبطر ، يكفينا أن نقدم على ذبحها للأكل فحسب ، لأن الهواتف من الحمام ربما هتفت نياحة على الطيران وذكر فراخها، أفيحسن بعاقل أن يعذب حيا ليترنم فيلتذ بنياحته فقد منع من هذا أصحابنا وسموه سفها )
وقال - أيضا - ( نحن نكره حبسه للتربية لما فيه من السفه , لأنه يطرب بصوت حيوان صوته حنين إلى الطيران وتأسف على التخلي في الفضاء ) وقال ابن مفلح ( فأما حبس المترنمات من الأطيار كالقماري والبلابل لترنمها في الأقفاص فقد كرهه أصحابنا لأنه ليس من الحاجات إليه ، لكنه من البطر والأشر ورقيق العيش ، وحبسها تعذيب ) وفي كلام ابن عقيل وابن مفلح وغيرهم مما ذكرناه هنا رد على من أجاز حبس الطيور في الأقفاص إذا كان حابسها يقوم بتوفير أكلها وشربها ؛ وقد تبين مرارا أن العلة في عدم جواز حبس الطيور في الأقفاص ليست فقط بمنعها المأكل والمشرب وإنما الحبس لأنه ظلم وعذاب وعليه فتأمل رحمة النبي (ص)بمثل هذه الطيور ، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال كنا مع رسول الله (ص)في سفر فانطلق لحاجته ، فرأينا " حمرة " معها فرخان ، فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش ، فجاء النبي (ص)فقال ( من فجع هذه بولدها ؟! ، ردوا ولدها إليها ) تأمل قوله (ص) ( فجع ) تعلم أن هذه الطيور تتألم حتى وصف (ص)هذه الحمرة بأنها ( مفجوعة ) ! ، وإذا كان الأمر كذلك فألا تفجع بحبسها ؟! ، وما مصلحة فاجعها ؟! ، إنه التسلي بحزنها ونواحها ! ؛ فلعل من كان غافلا أن يتنبه وقال الحافظ المحدث أبو نعيم حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني - وهو صاحب المعاجم الحديثية الثلاثة المعروفة - ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا عارم أبو النعمان قال أتبت « أبا منصور » أعوده فقال لي بات سفيان الثوري في هذا البيت وكان ههنا بلبل لابني ؛ فقال ( ما بال هذا الطير محبوس ، لو خلي عنه ؟! ) فقلت هو لابني وهو يهبه لك قال فقال ( لا ولكني أعطيه دينارا ) قال فأخذه فخلى عنه فكان يذهب فيرعى فيجيء بالعشى فيكون في ناحية البيت فلما مات سفيان تبع جنازته فكان يضطرب على قبره ، ثم اختلف بعد ذلك ليالي إلى قبره فكان ربما بات عليه وربما رجع إلى البيت ، ثم وجدوه ميتا عند قبره فدفن معه في القبر أو إلى جنبه فتأمل قول سفيان ( ما بال هذا الطير محبوس ، لو خلي عنه ؟! ) ، فلم يذكر الرزق وإنما ذكر الحبس فقط لأنه عذاب ، ثم إنه اشتراه وأطلقه ، ثم حصل هذا الأمر العجيب الذي فعله هذا الطائر !
وما أحسن كلام السفاريني في ذلك حيث قال ( لا يخفى على عاقل أن كثرة ترنم الطيور على تذكرها إلفها من الأماكن الشاسعة ، والأغذية الناصعة ، والقرين المصافي ، والماء العذب الصافي ، والإطلاق الرحيب ، ومخالطة الحبيب ، مع الوكر المشتهى لديها ، والأغصان والعكوف عليها ويعجبني من ذلك أن أعرابيا حبس في قلعة " جلق " المحروسة فضاق به الخناق ، وبلغت منه الروح التراق ، فدخلت عليه عند المحابيس - وكان في الحبس اثنان من « الديرة » - فقال لي الأعرابي " يا سيدي أنا أقول قاتل الله حابس الطير في الأقفاص ، فإنه لشجوه وغرمه يترنم والحابس له بشجوه وعذابه وبلباله يتنعم ، ولو عرف ما في جوفه من اللهيب الناشئ عن فراق الإلف الحبيب والمكان الرحيب لكان إلى البكا والوصب أقرب منه إلى التنعم والطرب ، ولكن هان على الخلي ما يلقى الملي " فقلت له ومن أين عرفت أنت هذا ؟! ؛ فقال " قسته على نفسي ، وشبهت حبسه بحبسي ، بجامع أن كلا منا نشأ في الفلاة الواسعة ، والأقطار الشاسعة "
فانظر حال هذا الأعرابي مع جفائه وغباوته ، وعدم مخالطته لذوي العلوم وقلة درايته ، كيف أدرك هذا المدرك ، تجده قد أصاب في قياسه وأدرك ؛ والله تعالى أعلم )
ومما سبق انتهى الرجل لحرمة حبس الطيور فى الأقفاص ومما ينبغى قوله التالى :
الأول هناك فارق بين طيور التربية للأكل وما يسمونها طيور الزينة فحبس طيور الزينة حرام وأما اسكان طيور التربية فى أماكن التربية والتى هى أماكن واسعة وبها ملاعب للطيور أى برك مياه أو عبارة عن مكان للمبيت وفى الصباح تطلق فى مساحة كبيرة للكل والشرب والحركة فهذا ليس من ضمن المحرم زد على هذا أن طيور التربية كالدواجن والبط والإوز لا تطير فى جو السماء وأما ما يسمونه طيور الزينة فتطير فى جو السماء
ومن ثم أباح الله امساك الله طيور التربية فى أماكن وحرم حبس الطيور التى تطير فى جو السماء وهو ما جاء فى قوله تعالى "ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السماء ما يمسكهن إلا الله"
فوجود الطير فى الجو دليل على عدم الحبس
الثانى حرمة استيراد الطيور من بلاد أخرى لأن الله خلق كل شىء لوظائف فى المنطقة التى يتواجد بها فإن نقل منها أو قضى عليه فسدت البيئة
الثالث حرمة بيع الطيور التى لا تؤكل لعدم وجود فائدة ظاهرة منها للإنسان وكما قلت إن الله خلقها لفائدة تقوم بها فى منطقة تواجدها والمنطقة تفقد هذه الفائدة بسبب هذا الصيد والبيع ومن ثم تفسد لأن التوازن يختل بها لأن الإنسان أفقدها المقدار الإلهى الذى قال فيه " وكل شىء عنده بمقدار"
الرابع ظهور ظاهرة حبس الطير فى الأقفاص هو من ضمن الترف الذى يوجب نزول العذاب على المترفين وهو عذاب متنوع قد لا يعرفون به ولكنه يأتى فى صور متعددة قد يعلمون بها او لا يعلمون